هنالك أكثر من رابط عضوي أزلي بين هذين العنوانين العريضين ، ولعل محاولة الوصول إلى هذه الروابط كانت وبلا شك محط محاولات عديدة على مر العصور ومادة خصبة للبحث والدراسة ، ومنذ أرسطو وتلميذه سقراط والمحاولات ما فتأت دؤوبة تارة لدى الفلاسفة وتارة لدى الأدباء والنقاد وأطوارا أخرى لدى العديد من مفكري الإنسانية ومتتبعي الشأن الثقافي والتراث الإنساني المتجدد دائما مع حركة الحياة وإبداعات الإنسان .
ولعل أرسطو في كتابه" الشعر" وكذا فعل كثيرا تلميذه أفلاطون في جمهورياته المتعددة قد دأبا على وضع الفنون الإنسانية تالية للفلسفة في المقام إلا انهما لم يفقدا إيمانهما بأن الشعر والأدب عموما موهبة ربانية والهام الهي تجود به ربة الشعر على هؤلاء الشعراء فينطقون بلسانها كما في مؤلفه أيون (Ion) ، وهكذا ذهب معظم ناقدي عصور النهضة الأوروبيون وعلى رأسهم شيلي Shelly في كتابه دفاعا عن الشعر ، وهي نظرة الكلاسيكيين من النقاد في أوروبا .
ولكن العرب وهم أهل القول والكلمة في مناحي الأدب المختلفة ومجالاته وبعيدا عن الفلسفة القديمة أبقوا الشعر والفن عموما في دائرة الموهبة طبعا ولكنهم زادوا بان الدربة تؤدي إليه ، ولعل ذلك ما استشف من حديثهم حول أحد أروع شعراء العرب عندما حكم عليه نقاد زمانه بأنه ما زال يهذي حتى قال الشعر ! والأمر بالأمر يذكر فان كثيرا من الأحكام النقدية في مجالس التحكيم النقدي منذ عكاظ ومرورا بمجالس الخلفاء العامرة كانت وبلا شك تحتكم في جزء مما تراه إلى حقيقة ثقافة الشاعر أو الأديب ومدى اطلاعه .
وان جاز لنا أن نجمل في هذا الموضوع رأيا نقول بان الفن مبتداه موهبة بلا شك ولكنها ترتكز إلى الثقافة والاطلاع كي ترقى إلى مراتب أعلى وتصبح اكثر جمالا وإقناعا بل وان بمقدورها حتى أن تصل إلى مستوى الإنسانية " ما يدعونه هذه الأيام بالعالمية " متجاوزة حاجز اللغة والتجربة الخاصة .
إن الثقافة فقط يمكنها أيضا أن تزيد من الذائقة الأدبية لدى المتلقي كي يصبح مستعدا للانتشاء في حضرة الفن الكبير وبدونها يبقى عاجزا عن التواصل الحميمي اللهم إلا استدراك واستشعار وخزات هلامية وبدائية يكفلها سيف الفن لكل متلق مهما كانت ثقافته ومستواها .
ومن هنا نضع لنا هدفا في هذه النافذة لا يمس فقط المواهب التي نحن بصدد إعطائها الأولوية في الخطاب والمكاشفة بل إنما هو لكل المتلقين بلا منازع لكي يصبح ميدانا عاما للتفاعل والاستفادة مما هو متاح وممكن وبذا يمكننا الاطمئنان إلى أننا سنحرك ولو قليلا عجلة تشكيل ذوق أدبي من نوع جديد يحسن التعامل مع الإرث الغني كما يحسن صيانة الواقع القائم وينظر بعين أكثر إبصارا إلى موطئ قدميه في المستقبل المرتقب .