الرحيل ليس هو السفر على أيِّ حال لا في فقه الدلالة ولا في واقع الحالة ، فالسفر مقصود وله عنوان الوصول كما كان له دافع المغادرة وسبب النهوض إلى الركائب واعتلاء ظهورها ، لكنَّ الرحيل شيءٌ آخر تماما مختلف الطعم والنكهة وخاصُّ الطقوس إلى حدٍّ بعيد ، وفيه من الجبر أكثر مما فيه من الرغبة والاختيار ، ويحمل طابع الاستعجال أكثر مما يحمل سمة الرويَّة والخيار، ومهما حاولت فيه يبقى قاسيا وعنيفا وصارخا إلى حدٍّ كبير ، هذا هو الرحيل الذي تقوله حروفه أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، برائه الهادرة القوية الصلبة العنيفة وحائه الحنون العطشى والموغلة في الألم ويائه الممتدة طويلا طويلاً بين المحطات والمواقف والقوافل ولامه المنهية جدول المواعيد وأجندة الحركة بدخول ٍ ليِّن ٍ إلى النهاية ْ !
تقول القصيدة " راحلٌ أو راحلان ....." بيد أن السنة الماضية وهي الثالثة من القرن الثالث للميلاد تقول شيئا آخر وتقرِّرُ أشياء أخرى ، نعم مضى عام الرحيل مغبرّاً وصاخباً وعنيفاً في جلبته ووحش رحيله ، ابتدأ مستلماً من عام قبله بمصطفى الحلاج ونثر عبره الكبارَ الكبارَ من إحسان عباس إلى إدوارد سعيد فمحمد القيسي فحافظ الجمالي فمحمد شكري فرسول حمزاتوف ففدوى طوقان وقرّرَ قبل أن يغيب أن يأخذ معه راحلا آخر هو الرائد أحمد صدقي الدجاني ، رحيل متصل ومقلق في تصميمه ودمويته ، ومحق أن يبرز السؤال وتبرز المخاوف بصدمة هذه الرحيلات المتصلة كما طالعنا مقالَ الأديبة ريما محمد في الحقائق مؤخرا وهو الذي عنونته بفاجع الصدمة " حتى لا ينقرضوا ....." .
هناك المبدعون الذين رحلوا عن لسان الضاد وهناك الذين رحلوا عن غير لسانها ولكنَّ المفجع أن نسبة راحلي الضاد كانت أكبر وأكثر فداحة ، ومن ضاد هؤلاء كانت نسبة أبناء الزيتون هي الأعلى وهم يسجّلون رحيلهم واحدا تلو الآخر في كلِّ العواصم وفي كلِّ المحطات ، حسنا هم رحلوا من الرحيل ذاته بعد أن طالَ رحيلهم واستقروا بعيدا عنه ولو لمرة واحدة ، أناخوا ركبهم أخيرا وصرفوا جمّالهم وأقاموا ظعنهم ، ترى هل انتقموا من الرحيل بهذا ؟ كانت منيتهم هذه الشجرة وهذا الوطن الذي سكنوه في رحيلهم مثلما سكنهم ، أما قال درويشنا ذلك ؟! نعم ....هكذا كانت أقدار الرحيل سواء وكانت محطة الوصول تائهة في عنوان الشوارع ولكنها واحدة في عنوان المواجع .
لهذا العالم في الرحيل حزن واحد وأسىً واحد ولنا فيه حزنان ولنا فيه ألمان و وجعان ، وجع الرحيل ووجع الارتحال فإلى متى بعد ذهاب جيلين لا نزال فيه الفرسانَ الكبار وأصحابَ السهم ِ ؟! ترى هل اختارنا الرحيل لنصنع على عينه ؟! نصف شعبنا راحل ونصفه مرحّل وتبقى السنون لا أكثر من شاهد زور ، قالوا عصا الترحال ...لا لم تعد عصا بل أصبحت شوكة الترحال وبقي نزفها الذي لا يرحل ، سجّل العالم رحيل آلافنا كلَّ عام ولم يستطع أن يقبل وصول واحد منا ..، أيُّ عبثية وأيُّ ظلامة ؟! ومع ذلك لن ننقرض ولن نيأس ، ونبقى مصرِّين على اختصار الرحيل في غاية الوصول مهما كانت قسوة الطريق ومهما اشتدَّ عنفُ الحريق ، فالمسألة تساوت مع البقاء أو الانتفاء .
وإذا كان الرحيل الفيزيائي هو رحيل أجساد أحبة وبقاء أرواحهم وفكرهم ونبضهم الإنساني والإبداعي فهو رحيل لم ينتصر علينا ولم يحقِّق إسدال الستار طالما بقي ما خلَّف هؤلاء ويد تصون وذاكرة تسجِّل باحترام ومحبة ، وحينما تكون هذه الوصية نافذة لا يملك التاريخ إلا أن يقف منتصبا خاشعا بين يدي هذه الأمم التي تبقى على وصايا راحليها دون تلكؤ ولا تبديل ، وفي هذه تكون دوما سلوى الرحيل وبعض دواء على فواجعه المؤلمة ومآسيه العاصفة ، هكذا نستعين على الرحيل بما خلّف الراحلون ونصبر على ما تبقى من رحيل بما سيزيد المقبلون ، وفي عمر الذاكرة الحيَّة يمكن أن تنهض من جديد خطى الراحلين أسرع مما كانت عليه وفي سفرٍ هذه المرة وليس في رحيل .
أما أقسى أنواع الرحيل وأشدها مضاضة هو رحيل الدول ورحيل الأفكار ورحيل العناوين ، وهذا العام الذي شهد رحيلاً بفعل العدوان البشري ِّ على موضع من الخارطة العربية هو ذاته الذي شهد قراراً برحيل طوعي من العمق العربي إلى ما يهلِّلُ له أعداؤه وباغضوه من كلِّ لون وكلِّ ملة ، وهو ما دفع هؤلاء جملة إلى نهش ما تبقّى على قاعدة الانتهاز وقاطرة الكفران بالفكرة المحرِّك وإن تغطَّت وتذرَّعت بذرائع الشكل وأخطاء التطبيق ومثالب دور الغرائز ، وهنا لا بدَّ من وقفة عميقة وصرخة مفيقة ، لن ترحل أبداً فكرة الجسد الواحد ولا الروح الواحدة مهما كانت قسوة الزوابع فعلى الأقل يبقى هناك في المنزل الذي شهد أوَّل رحيل في الخارطة وعانى من هذا كله أمل وإصرار ويقين على هذه الغاية رغم الألم ورغم الجراح ، متعانق معها عبر تسجيل رحيله اليومي هذا